ما بالك باثنين الله ثالثهما: ثقة لا تعرف المستحيل

قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40). وفي الحديث الشريف قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" (رواه البخاري ومسلم).


في تلك اللحظة العصيبة، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر في الغار، والمشركون على بُعد خطوات قليلة منهما، لم يكن الخوف على النبي من أعدائه، بل كان قلق أبي بكر على النبي الذي أحبه ورافقه في كل خطوة من خطوات الهجرة. ولكن كلمات النبي صلى الله عليه وسلم جاءت لتسكب الطمأنينة في قلب أبي بكر، حين قال: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

هذا الحديث يعلّمنا معنى الثقة بالله، أنه مهما ضاقت الدنيا وأحاطت بنا الصعاب، فإن الله معنا. ليس فقط في الأماكن الصعبة أو في لحظات الخوف، بل في كل لحظة من حياتنا. عندما نشعر أن الدنيا أغلقت أبوابها، علينا أن نتذكر أن الله قريب، يسمع دعاءنا، ويعلم حالنا.

هذا الحديث يعلّمنا أن الحياة مليئة بالأزمات والمحن، لكن المؤمن الحقيقي يواجهها بطمأنينة ويقين بأن الله لن يتركه. النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الخوف يتسرب إلى قلبه، بل أرسل رسالة الطمأنينة إلى صاحبه أبي بكر، وهذا هو الأسلوب الذي يجب أن نتبعه في حياتنا، أن نبحث عن القوة في يقيننا بالله.

الحديث يُظهر أن معية الله تعالى هي الحصن المنيع في أوقات الشدة. عندما يكون الله معنا، فلا شيء يمكن أن يُصيبنا إلا ما قدره لنا. هذا القرب الإلهي هو الحماية التي نحتاج إليها دائمًا، وعلينا أن نسعى لهذا القرب سواء في الرخاء أو الشدة.


كيف نفّذ الصحابة هذا الدرس في حياتهم:

حياة الصحابة رضي الله عنهم مليئة بالأمثلة التي تُظهر كيف نفّذوا تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصًا في ما يتعلق بالثقة بالله والتوكل عليه في أصعب المواقف. إليك بعض الأمثلة البارزة:

1. ثبات أبي بكر الصديق في الهجرة :

عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار، وأبو بكر خائف من أن يراهم المشركون، قال له النبي: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما." هذا الموقف يظهر لنا الثقة العميقة بالله التي ترسخت في قلوب الصحابة، فبعدما سمع أبو بكر هذه الكلمات، هدأ واطمأن لأن الله معهم. ظل أبو بكر مرافقًا للنبي طوال الهجرة، محاطًا بالخطر، لكنه لم يتراجع أو يضعف.

 2. ثبات الصحابة في غزوة بدر :

في معركة بدر، كان المسلمون قلة قليلة وعدد المشركين يفوقهم بكثير، لكن الصحابة واجهوا المعركة بيقين ثابت بأن الله معهم. قال الله فيهم: **"إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ"** (الأنفال: 9). هذا الدعم الإلهي لم يكن ليأتي إلا من خلال يقين الصحابة بأن النصر من عند الله، مهما كانت المعطيات المادية غير متكافئة.

 3. موقف خباب بن الأرت مع النبي:

خباب بن الأرت، أحد الصحابة الذين تعرضوا للتعذيب الشديد من قريش بسبب إسلامه. ورغم هذا التعذيب، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مبشرًا إياه بأن النصر آتٍ لا محالة، لكن على المسلمين التحلي بالصبر. هذا اليقين بقدوم الفرج جعل الصحابة يصبرون على البلاء، لأنهم كانوا على ثقة بأن الله لا يترك عباده المخلصين.

4. صبر آل ياسر:

أسرة ياسر (ياسر، سمية، وعمار) تعرضوا للتعذيب الوحشي من قريش لثنيهم عن الإسلام. ورغم هذا، كانوا ثابتين في إيمانهم حتى قُتلت سمية، رضي الله عنها، لتكون أول شهيدة في الإسلام. لم يكن لديهم سلاح سوى يقينهم بأن الله معهم، وأن مصيرهم إلى الجنة.

5. موقف عمر بن الخطاب عند فتح بيت المقدس:

عندما دخل عمر بن الخطاب إلى بيت المقدس لاستلام مفاتيح المدينة، جاء بتواضع كبير، متوكلاً على الله، وليس على القوة أو العظمة. لبس عمر ملابس بسيطة، ودخل المدينة وهو يجر بعيره. هذا الموقف يُظهر كيف أن الصحابة لم ينسوا الله في لحظات النصر، بل كانوا دائمًا متوكلين عليه ومعتمدين على فضله.

6. ثبات الصحابة في غزوة الأحزاب:

في غزوة الأحزاب، كان المسلمون محاصرين من كل جهة، والظروف المناخية والعددية ضدهم، لكن الصحابة ظلوا متوكلين على الله. قال الله تعالى فيهم: **"وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا"** (الأحزاب: 22). هذا الإيمان والتسليم الكامل بمشيئة الله هو الذي مكّنهم من الانتصار رغم شدة الحصار.

 7. موقف عبد الله بن مسعود في الدعوة الجهرية:

عبد الله بن مسعود كان من أوائل الصحابة الذين جهروا بالقرآن في مكة، رغم علمه بأن قريش ستعذبه إن فعل ذلك. وبالفعل، تعرض للضرب الشديد عندما جهر بالقرآن أمام الكعبة، لكن إيمانه العميق وثقته بأن الله معه جعلته يُكرر المحاولة مرة أخرى دون خوف. 

 8. موقف خالد بن الوليد في معركة مؤتة:

في معركة مؤتة، كان المسلمون يواجهون جيشًا كبيرًا من الروم، وكانت القوات غير متكافئة. تولى خالد بن الوليد قيادة الجيش بعد استشهاد القادة الثلاثة، وتمكن من إعادة تنظيم الصفوف والانسحاب بطريقة استراتيجية دون أن يلحق بالمسلمين هزيمة كبيرة. كان خالد بن الوليد متوكلاً على الله، يعلم أن النصر أو الهزيمة بيد الله، وأن الأمانة في تنفيذ المهمة حتى النهاية.

الصحابة رضي الله عنهم جسّدوا في حياتهم معاني التوكل والثقة بالله في أشد المواقف، سواء كانت في المعارك أو في التعرض للأذى أو في الحياة اليومية. كانوا دائمًا يسعون لتطبيق تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم في كل موقف، متيقنين أن الله لا يخذل عباده

الثقة بالله ليست مجرد شعور، بل هي يقين بأن الله يدبر لنا الأمور ويختار لنا ما هو خير. مثلما حفظ النبي وأبا بكر في الغار، هو كذلك يحفظ عباده المؤمنين في كل زمان ومكان. فعندما نواجه المواقف الصعبة في حياتنا، يجب أن نكرر لأنفسنا: "ما بالك باثنين الله ثالثهما؟" 

تعليقات