تأملات في رحمة الله وسعة ملكه

 في خضم الزمان والمكان، حيث تتسارع وتيرة الحياة وتتنوع القلوب والأفعال، يأتي حديث قدسي ليُعيد لنا البصيرة ويذكرنا بعظمة الله وسعة ملكه. والحديث القدسي هو حديث يُنسب إلى الله تعالى ولكنه يُروى عن طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم. من بين الأحاديث القدسية، حديث قدسي مشهور هو:

قال الله تعالى:  

"يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" (رواه مسلم)، يُقدّم لنا دروساً عميقة حول حقيقة ملك الله وسعة رحمته.

 عظمة الله وسعة ملكه: تأملات في المعنى

هذا الحديث يكشف لنا عن أحد أعظم الحقائق التي يجب أن نفهمها في علاقتنا بالله. الله تعالى، بصفاته اللامتناهية، لا يتأثر بأفعالنا بشكل مباشر كما نتصور. فسواء كان جميع الناس، من إنس وجن، يعيشون بتقوى أو فجور، فإن ملك الله يبقى ثابتاً، غير متأثر بزيادة أو نقصان. هذه الحقيقة تعكس أن الله تعالى هو الكيان المطلق، الذي لا يخضع لقوانين البشر أو تأثيراتهم.

عندما يقول الله إن تقوى الناس لن تزيد في ملكه شيئاً، فهو يُذكّرنا بأن العبادة والتقوى ليست لتغيير حالة الله، بل هي لتغيير حالتنا نحن. هي لتزكية قلوبنا ولتطوير أخلاقنا، ولإيجاد توازن روحي في حياتنا. وكذا، فإن الفجور لا ينقص من ملك الله، لأن ملكه مطلق ومستمر دون نقصان.

 عطاء الله وسخاؤه: درس في الاستجابة والدعاء

الحديث أيضاً يُبدي لنا حقيقة مهمة عن عطاء الله وسخائه. لو أن جميع البشر اجتمعوا وسألوا الله، فإن عطائه لكل واحد منهم لن ينقص مما عنده إلا كالمخيط إذا أدخل في البحر. هذه الصورة البيانية تُظهر مدى سعة عطاء الله، الذي لا يَنتقص مهما تعددت الطلبات.

هذا المثل يساعدنا على فهم كيف أن الله لا يتأثر بمقدار ما يُطلب منه، فهو قادر على تلبية جميع الطلبات دون أن ينقص ذلك مما عنده. في حياتنا اليومية، هذه المعرفة تمنحنا الأمل وتُشجعنا على الاستمرار في الدعاء والتوكل على الله، مهما كانت تحدياتنا واحتياجاتنا.

 كيف يعزز هذا الحديث من رحلتنا الروحية

أجد أن هذا الحديث يعطيني منظورا جديدا عن كيفية تقويم أعمالي وسلوكياتي. بمعرفة أن ملك الله لا يتأثر بأعمالنا، أدركت أن العبادة ليست وسيلة لتغيير حالة الله، بل هي وسيلة لتحسين ذاتنا وتعزيز علاقتنا به. عندما نؤدي أعمال الخير والتقوى، فهي ليست لزيادة ملك الله، بل لتقوية إيماننا وتعميق فهمنا لرحمته.

أجد في هذا الحديث دعوة للتواضع والصدق في العبادة. إذا كانت الأعمال لا تؤثر على ملك الله، فإنما هي تعبير عن رغبتنا في السير على درب الاستقامة. فمن وجد في نفسه خيراً، عليه أن يحمد الله ويشكره، ومن وجد في نفسه نقصاً، فعليه أن يُعَالج هذا النقص بصدق ويبحث عن تحسين نفسه.

حديث "يا عبادي!" يعكس عظمة الله وسعة ملكه ويُشعرنا بأن عبادة الله والتقوى ليست من أجل إضافة شيء إلى ملكه، بل لتحسين حالنا وتطوير أنفسنا. هذا الحديث هو دعوة لنا للتفكر في أعمالنا وتقييمها بصدق، مع إدراك أن كل عمل نقوم به هو جزء من رحلتنا الروحية. فليكن هدفنا هو تحسين أنفسنا، وليس فقط تحقيق الأهداف الدنيوية، ولنتذكر دائماً أن ملك الله وسعة رحمته لا تحدها حدود.



تعليقات